نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
استمتعوا بهواتفكم الحقيرة ! - تدوينة الإخباري, اليوم الجمعة 31 يناير 2025 03:58 مساءً
بقلم: عادل بن حمزة
استمتعوا بهواتفكم الحقيرة، بهذه العبارة عنونت "ليكسبريس" الأمريكية آخر عدد تصدره سنة 2019، قبلها بسنتين جاءت أخبار حزينة من لبنان تهم مستقبل الصحافة وخاصة الورقية منها، فقد شيع القراء هناك قبل نهاية سنة 2016 جريدة "السفير" بعد 42 سنة من الحضور في الساحة الإعلامية اللبنانية التي كانت دائما نموذجا في العالم العربي، و لأن الكوارث لا تأتي منفردة، فإن نفس المصير كان ولايزال يتربص بتجارب أخرى. عالم الصحف الورقية يعيش بلاشك، على وقع رحيل صحف ومجلات ورقية بعد سنوات من العطاء. سنة 2013 أقفلت مجلة "نيويورك تايمز" وتحولت إلى النت، وفي سنة 2016 أقفلت "الأندبندت" وتحولت أيضا إلى النت، بصفة عامة هناك أزمة حقيقية تعرفها الصحافة الورقية والأكيد أن الأزمة ستتواصل وهذا ما يؤكده الصحفي الفرنسي "برنار بوليه" في كتابه "نهاية الصحف ومستقبل الإعلام"، الذي تنبأ فيه بتغييرات جوهرية ستهم الصحف الورقية نتيجة تراجع موارد الإشهار التي تبحث عن وسائط أخرى أكثر قربا من المستهلكين، حيث اعتبر "بوليه" أن الأمر لا يتعلق بأزمة ظرفية وعابرة، بل الأمر يتجاوز ذلك إلى أزمة بنيوية تكشف عن نهاية مرحلة من صناعة النشر والإعلام والحاجة إلى بدائل جديدة.
قد لا تكون هذه النهاية قدرا حتميا، فصراع الوجود بين وسائل الإعلام تكررت عبر التاريخ المعاصر، حيث أن ظهور الراديو لم يستطع أن ينهي عهد الصحف، وظهور التلفزة لم يستطع أن ينهي حضور الراديو، كما أن ظهور الكتب الإلكترونية لم يستطع أن ينهي عهد الكتاب الورقي، وكذلك الأمر على مستوى المنافسة بين المواقع الإلكترونية وتطبيقاتها الرقمية والصحف الورقية..فالتطور والإستمرارية إرتبطت بتوظيف المستجدات التكنولوجية بشكل أكثر مردودة خاصة اتجاه المعلنين، هذه المستجدات المتسارعة تجعل من الصعوبة بمكان توقع المستقبل، حيث الصفة الغالبة اليوم هو سرعة تغير الوسائط الأشكال والتكنولوجيا.
من جانبه يؤكد الاقتصادي الأمريكي "جريمي ريفكن"، أن للأمر له طابع بنيوي، فالاقتصاد القائم على المعرفة، يسير إلى ما يسميه "بالتكلفة الصفرية"، وهو ما يتحقق اليوم عبر الإعلام الإلكتروني المجاني أو شبه المجاني، حيث يعتبر أن الصناعة الإعلامية، هي أول القطاعات التي دخلت عصر التكلفة الصفرية، وأن هذا الواقع سيمتد إلى صناعات أخرى مع التطور الهائل الذي تعرفه التكنولوجيا والذي سيغير بصفة كلية طبيعة العلاقات الإنسانية، هذا الأمر يهم أيضا تطبيقات الذكاء الاصطناعي فنحن شهود اليوم كيف تسبب التطبيق الصيني DeepSeek الذي لم تتجاوز تكلفة تطويره 5,4 ملايين دولار، في خسارة تقارب تريليون دولار لمطوري الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث خسرت Nvidia وحدها 17٪ من قيمتها السوقية وبلغت 500 مليار دولار.
من جانب آخر يرتبط الحديث عن الصحافة الورقية، بأجيال لها تقاليد في القراءة، حيث تظهر الجوانب الثقافية والشخصية والنفسية لتعلق الناس بقراءة ما هو ورقي، في مقابل أجيال أخرى، خاصة التي تزامن ميلادها مع ظهور اللوحات الالكترونية والهواتف الذكية، والتي لا تملك نفس التقاليد، وهو ما يعني أن عملية التحول من المكتوب إلى الإلكتروني، يرتبط بشكل أساسي بدخول أجيال جديدة، برؤية جديدة وإنتظارات جديدة بحاجة طبيعية لإعلام جديد، وهو ما ينعكس سلبا على الموارد المالية للصحف الورقية،نتيجة بحث المعلنين، عن فضاءات جديدة ومختلفة للتأثير على المستهلكين.
قد يكون أمل الصحف الورقية مستقبلا هو في الأجيال التي لازالت لها إرتباطات عاطفية بماهو ورقي، لكنها أجيال على كل حال تسير في إتجاه الانخفاض، ولولا تحسن أمد الحياة في عدد كبير من بقاع العالم لكانت النهاية قريبة جدا، لكن هذه الفئة لربما يتم إستهدافها بشكل غير متوقع، ففي سنة 2018، اتفقت فدرالية الناشرين و وزارة الاتصال في المغرب - قبل أن يتراجعا عن ذلك- على إتخاذ إجراء قانوني يحول دون السماح بالقراءة "العمومية" للجرائد المكتوبة في المقاهي، وذلك على خلفية دراسة أنجزتها الفيدرالية بتمويل من الوزارة، تقول بأن الصحافة الورقية في المغرب ساعتها، كانت تخسر حوالي 150 مليون درهم نتيجة قراءة الصحف بالمجان في المقاهي. منع قراءة الصحف في المقاهي أو بالتدقيق منع أرباب المقاهي من تمكين الزبناء من قراءة مجانية للصحف الورقية، هذه الظاهرة التي كانت ملازمة للمقاهي المغربية منذ سنوات، تعكس في واحد من جوانبها الإيجابية، أن فعل القراءة لازال موجودا في المجتمع، لكن في جوانب أخرى يعكس ضعف القدرة الشرائية، باعتبار سعر الجريدة مقارنة ببعض المواد الاستهلاكية الأساسية، وكذلك عدم الإقتناع بجودة المنتوج الصحفي إلى درجة إستحقاقه لمبلغ مالي معين، لذلك تفضل الأغلبية القراءة المجانية، هذه القراءة لم تكن في الواقع الخطر الذي يتهدد الصحافة الورقية، بل إن عدم قدرتها على مواكبة تحولات إقتصاد المعرفة والعادات الجديدة للقراء هي السبب.
لقد نجحت الرأسمالية في بلوغ التكلفة الصفرية في الإنتاج في صناعة الإعلام، هذا الهدف الذي كان رهان كل الرأسماليين في مختلف المجالات، لكن المفارقة هي أن الرأسماليين كانت غايتهم من التكلفة الصفرية هي تعظيم الأرباح والنزول بالتكاليف إلى الصفر أو ما يقترب منه، و تشاء الصدف أن يكون قطاع الإعلام هو أول قطاع يحقق التكلفة الصفرية، حيث أصبح المتلقي يطلع عبر هاتفه الذكي الرخيص، على الأخبار والمعلومات من مصادر مختلفة وبلغات متعددة بصفر درهم تقريبا، لهذا أغلقت صحف ومجلات عريقة في العالم لأنها لم تستطع أن تواكب هذا التحول الجذري، وربما في عصر الذكاء الاصطناعي التوليدي قد ندخل عصرا جديدا من الإعلام يختلف كليا عما عرفناه إلى اليوم.
0 تعليق